القدس بين تهويد المكان والسكان
لم يكن الإعلان عن قيام السلطات الإسرائيلية مؤخرا بعمليات توسع استيطاني في منطقة جبل غنيم بالقدس من قبيل المصادفة فرغم أن هناك حديثا متزايدا عن أن الوقت قد حان لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ـ العربي الإسرائيلي سابقا- وإقامة دولة فلسطينية مستقلة علي حدود ماقبل الخامس من يونيو1967 فأن وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية علي مدينة القدس الشرقية تتزايد سواء من السلطات الرسمية الإسرائيلية أو من المستوطنين وذلك بغرض واحد هو طمس معالمها العربية إسلامية كانت أو مسيحية وتهويدها سواء من ناحية المكان أو السكان حتي تكون هناك ذريعة لعدم الانسحاب منها لتصبح عاصمة للدولة الفلسطينية في حال اقامتها.
وقد شاهدنا في أوائل العام الحالي قيام السلطات الإسرائيلية بأعمال الحفر في منطقة باب المغاربة المؤدي إلي المسجد الأقصي بحجة إنشاء نفق يربط الحي العربي بالحي اليهودي الذي يعرف باسم منطقة الجدار الغربي أو حائط المبكي عند اليهود, وبعد أن اثارت تلك الأعمال توترا كبيرا في المدينة وتنديدا واسعا في العالم الإسلامي, اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلي الإعلان عن تعليق أعمال الحفر مؤقتا, خاصة بعد أن اعترف مسئولون إسرائيليون بأن الهدف من الحفر ليس إنشاء نفق كما هو معلن, ولكن البحث عن أي دليل أثري عن وجود يهودي سابق في المدينة المقدسة يؤكد المزاعم اليهودية بأن المسجد الأقصي مقام علي أنقاض هيكل سليمان, مما يبرز, كما قلنا, وضع المدينة تحت السيطرة الإسرائيلية وتكريس اعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل, خاصة أن جميع عمليات التنقيب التي جرت منذ احتلال المدينة المقدسة قبل ثلاثين عاما, وحتي اليوم لم تؤد إلي العثور علي أي دليل عن وجود يهودي سابق رغم الكشف عن آثار من مختلف العصور والممالك التي تعاقبت علي القدس.
ومن خلال الرصد الذي قامت به الأهرام في المكان وسؤال المختصين, فقد تأكدت من صحة ما قالته خبيرة آثار إسرائيلية إيلات مازار من أن عمليات الحفر التي قامت وتقوم بها السلطات الإسرائيلية للبحث عن آثار في تلة باب المغاربة وغيرها من المناطق في البلدة القديمة, سيؤدي إلي الكشف عن أساسات المسجد الأقصي.
وقبل أن نتكلم عن تفاصيل العدوان المتواصل الذي تتعرض له القدس, فيجب أولا أن نلفت نظر القراء إلي أن اسم المسجد الأقصي المبارك هو اسم لكل ما يدور حوله السور الواقع في أقصي الزاوية الجنوبية الشرقية من مدينة القدس القديمة المسورة بدورها, ويشمل كلا من قبة الصخرة المشرفة( ذات القبة الذهبية), والموجودة في موقع القلب منه, والجامع القبلي( ذي القبة الرصاصية السوداء) والواقع أقصي جنوبه ناحية القبلة فضلا عن نحو200 معلم ديني وأثري آخر تقع ضمن حدود الأقصي, ما بين مساجد, ومبان, وقباب, وأسبلة مياه, ومصاطب, وأروقة, ومدارس, وأشجار, ومحاريب, ومنابر, ومآذن, وأبواب, وآبار, ومكتبات.
وأما الحائط الغربي للأقصي الذي يسيطر عليه اليهود اليوم ويسمونه حائط المبكي, فهو الحائط الوحيد الذي يحمل اسما إسلاميا منذ فجر الدعوة الإسلامية, وهو حائط البراق, وأن هذا الحائط هو الذي قامت من أجله ثورة شعبية في عام1929 م سميت باسمه( ثورة البراق), وأنه من أجل هذا الحائط شكلت لجنة دولية عقب هذه الثورة وخرجت بقرارات قاطعة علي أنه للمسلمين وحدهم تعود ملكية هذا الحائط.
ولاحظ مراسل الأهرام أن إغلاق السلطات الإسرائيلية لباب المغاربة المؤدي إلي حائط البراق أو حائط المبكي, كما يسميه الإسرائيليون, بحجة منع تفجر أعمال عنف بين اليهود الذين يحجون للمكان والسكان العرب جري استخدامه كستار لمواصلة أعمال الحفر بعيدا عن العيون وحتي لا تكون هناك ردود فعل من الجانب العربي.
ورصد مراسل الأهرام أعمال الترميم الجارية في الجانب الغربي من السور المحيط بالمسجد الأقصي, الذي ادعي عالم اثار يهودي أخيرا أنه جري العثور علي بقايا آثار يهودية أسفله, وهو ما نفاه المسئولون عن أعمال الترميم جملة وتفصيلا.
ولم تخل شوارع البلدية القديمة, كما شاهد مراسل الأهرام من محاولات التهويد, فهناك عدة منازل استولي عليها مستوطنون يهود بالقوة أو اشتروها بالتحايل ليكون لهم موطئ قدم في المدينة, ومنها ما يسمي ببيت شارون الذي جري وضع الأعلام علي طول جداره بشكل استفزازي, ليكون إشارة للوجود الإسرائيلي اليهودي في البلدة.
وتواجه القدس عدوانا آخر يتمثل في المحاولات الدائمة لتهوديها سكانيا أيضا, فبعد أن نجحت إسرائيل في محاصرة المدينة العربية القديمة بحزام من المستعمرات اليهودية, فإنها لا تألوا جهدا في تهويد القدس الشرقية العربية, ولو أخذنا الميزان الديموجرافي بعين الاعتبار, سنجد أن نسبة المستعمرين إلي مجموع من يعيشون في الضفة الغربية تبلغ15,8%, بينما تبلغ هذه النسبة في محافظة القدس38,0%, وذلك حسب بيانات عام2005.
ومن بين144 مستعمرة يهودية رسمية تم حصرها في الضفة الغربية في نهاية عام2005, وصل العدد في محافظة القدس وحدها إلي26 مستعمرة منها16 مستعمرة تم ضمها إلي إسرائيل, ثم محافظة رام الله والبيرة وبها24 مستعمرة, وهي محافظة ملاصقة للقدس كانت ضمن التقسيم الإداري القديم للقدس.
ومن بين نحو451 ألف مستعمر يستوطنون الضفة الغربية جري حصرهم في عام2005, يتضح من البيانات أن معظم المستعمرين يسكنون محافظة القدس, حيث يوجد246 ألف مستعمر.
وأخذت قضية الاستيطان في القدس والمنطقة المحيطة بها منذ عام1967 أهمية رئيسية, واتفقت جميع وجهات النظر في إسرائيل علي التمسك بالقدس وعلي أن عملية الاستيطان فيها, إنما تهدف إلي جعل القدس يهودية لتصبح العاصمة ا لحقيقية لدولة إسرائيل, وذلك بالإتيان بربع مليون مهاجر يهودي جديد أو أكثر إلي المدينة المقدسة, وامتداد الاستيطان إلي ما وراء حدود القدس الحالية لتشمل دائرة تمر بحدود رام الله وبيت لحم والخان الأحمر, أي لتتحول القدس العربية إلي جزيرة صغيرة وسط بحر يهودي, وهذا بالتالي سيرسخ عملية التحول اليهودي للمدينة ويكرس إسرائيل عليها, ويفصلها نهائيا عن المنطقة العربية.
ومنذ يونيو1967, وضع التخطيط الجديد للقدس لتغطية المدينة كلها وربط شطريها, وقامت بإعداده لجنة هندسية إسرائيلية عليا, وحاولت إسرائيل إضفاء الشرعية علي ما تنوي تنفيذه, فقام تيدي كوليك رئيس البلدية الأسبق بتشكيل لجنة استشارية باسم اللجنة الخاصة بالقدس.
وقد عقدت إحدي اللجان المتفرعة عن اللجنة الرئيسية ندوة دولية موضوعها القدس عام2000, وقدم لهم فريق من المصممين الإسرائيليين رسومات أولية لمشروع تخطيط مدينة القدس.
وأهم النقاط التي تضمنتها الخطة الإسرائيلية لإعادة تخطيط مركزها:
ــ إحاطة أسوار المدينة القديمة بحديقة كبيرة وتغطية الأسوار بالورود والأشجار.
ــ إظهار حائط المبكي في بعض أجزاء منه بطوله الكامل.
ــ إزالة جميع المباني القديمة والمتهدمة والأحياء الفقيرة.
ــ إنشاء مركز تجاري رئيسي في وسط المدينة علي مسافة تبلغ2700 دونم وفي حدود تقع ما بين مقبرة مأمن الله الإسلامية غربا, وما بين منطقة المستشفي البلدي في طريق يافا شمالا, وبين محطة السكك الحديدية جنوبا, وسور القدس وحتي وادي الجوز شرقا.
وبالنسبة لمقبرة مأمن الله, التي تضم رفات العديد من عظماء الإسلام من الصحابة والقادة العسكريين, خاصة من جيش الناصر صلاح الدين, فهناك مخطط لإزالتها وإنشاء متحف يهودي تحت اسم متحف التسامح مكانها, بحجة أنها تقع في حي معظم سكانه من اليهود, فيما يعرف باسم القدس الغربية, وقد توقفت عملية الهدم مؤقتا بسبب القضايا التي رفعها العرب, لأن المقبرة بالكامل ملك الوقف الإسلامي وليست ملك ما يعرف باسم إدارة أملاك الدولة الإسرائيلية.
وقد رصد مراسل الأهرام مدي الإهمال الذي تتعرض له مقبرة مأمن الله, حيث تتناثر شواهد القبور علي الأرض لكي تتوه المعالم, وبالتالي يسهل هدم هذا الأثر الإسلامي الفريد.
وإذا كانت إزالة الأحياء القديمة ـ كما حدث لحي المغاربة وحي الشرف والحي اليهودي ـ قد توقفت مؤقتا بشكلها الأصلي, فقد تواصلت بشكل آخر تلك السياسة من خلال تنفيذ ما يسمي مشروع الحزام الأخضر, أي إزالة الأحياء القديمة والمقابر التاريخية المحيطة بسور القدس. وقد أطلق عليه اسم منتزه وولفسون نسبة إلي ايزيك وولفسون الأمريكي الذي تبرع بالجزء الأكبر لإنشائه.
ومنذ عام1980, بدأ إخلاء السكان العرب من الأحياء الواقعة قرب السور بحجة تجميل القدس, وفي وقت تصاعدت فيه عمليات التهويد بحيث إن المنطقة المحيطة بسور القدس( مثل سلوان, العيزرية, باب الخليل, باب العمود وجبل الزيتون) اعتبرت مناطق خاصة لا يجوز السكن فيها.
عاشقة ---- فلسطين
موضوع: القدس بين تهويد المكان والسكان 
