روى ابن أبي شيبة في المصنف وأبو داود في السنن بسند صحيح عن العرس بن عميرة وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المعصية لتقع في الأرض، فيكون من أنكرها كمن غاب عنها، ومن أقرها كمن حضرها»..
هذا الحديث ميزان لتعامل المسلم مع المعاصي في القديم والحديث بغض النظر عن كبر هذه المعاصي أو صغرها، أو تعلقها بالبشر أو بغيرهم، وهو عام في النظر لهذه المعاصي إذ إنه يفيد أن الناس أمام المعاصي اثنان «مقر أو منكر» وليس هناك محايد، فالمقر موافق لصاحب المعصية، حامل لوزرها حتى لو جاء بعدها بقرون، والمنكر مخالف لصاحب المعصية، بريء من إثمها حتى لو كان جالساً مع مقترفها، وما أحوج المسلمين في هذه الأيام إلى تطبيق هذا الميزان، فهناك معاص عظيمة توجد في حياة الأمة، أمثال:
1- رفض تحكيم الشريعة وعدم القبول بها في سائر بلاد المسلمين.
2- رد حكم القرآن وفي سائر بلاد المسلمين.
3- الولاء للكفار بشتى أنواع كفرهم كاليهود والنصارى والشيوعيين والليبراليين والقوميين وشتى أنواع اليساريين، ومن انضاف إليهم من الفلول والنفعيين في سائر بلاد المسلمين.
4- عدم الولاء للمؤمنين بعدم التحرق لمصابهم والتكثير لعددهم والذكر لمحاسنهم، والذود عن قضاياهم، وتوجع القلب لمصابهم، حتى كأن حالهم أنهم ليسوا من هذه الأمة فلو وقع باص في ادغال افريقيا أو امريكا لتحركت له قلوب، ودمعت له أعين، واتجهت نحوه عواطف، لكن بدن الله التي تذبح من المسلمين من طلاب الحرية لا بواكي لها، ولا إقالة لعثرتها، ولا حديث عن مصابها، ولا انحياز لقضيتها.
5- قتل النفوس البريئة بغير حق، تلك التي قال الله فيها: «من أجل ذلك كتبنا عليهم أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»، وقال تعالى: «ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً» التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لزوال الكعبة أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم».
6- الوقيعة في أهل الدين وتشويه صورتهم، والإقـذاع في أوصافهم والكذب في الادعاء عليهم وهو بضاعة أهل الفن الساقط والاعلام المتكسب في بلاد المسلمين.
7- التطريق لأهل الباطل على أهل الحق بكشف عيوبهم والاشارة الى خصوصياتهم وتكبير اخطائهم وتجريم البريء منهم، وعمل غسيل الدماغ للضعفى منهم، كما صنع ذاك الافاك حسن التهامي في وثيقته المشهورة.
8- ايقاع اليأس في نفوس الناس، وايهامهم أن الدين قد انتهى من الأرض، وأن الخير قد رفع منه، وأن لا فائدة لأن يجهر أهل الحق بحقهم، وأن يطالب الناس بحقوقهم الشرعية ومنها الحريات مع أن هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال هلك الناس فهو أهلكُهم، أو أهلكَهم» بمعنى أنه أكثرهم هلاكاً، أو أنه أحد أسباب هلاكهم، والله تعالى يقول: }إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون{، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن هذا الدين منصور، وأن الإسلام قادم، وأن أولئك الذين يطالبون بحريات الناس وحقوقهم من الصُبر والصُدق والشهداء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وتمثلاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه، فسفك دمه».
وعلى هذا كله، فإن المسلم المعاصر في مشارق الأرض ومغاربها، مهما كان موقعه، ودرجة علمه، مأمور بأن يعرض نفسه على هذا الحديث الميزان، ثم ينظر في هذه المعاصي الذنوب الكبائر التي بابها أصول الاعتقاد بإجماع علماء المسلمين سلفاً وخلفاً وخوارج وشيعة وغير ذلك، ليحدد موقفه من هذه المعاصي، فإما أن يقر بها؛ وبالتالي هو شريك فيها حتى لو كان في جحر جبل في مكان لا يعرف، وإما أن ينكرها؛ وبالتالي فهو بريء منها، وأمامه أن يبرأ منها بقلبه أولاً، ثم بلسانه ثانياً، ثم بيده ثالثاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث انكار المنكر، المعروف عند صبيان المسلمين، ولا يسولن الشيطان لبعض الناس بأكذوبة الحياد، فالحياد خداع وكذب وادعاء، وهو دال إما على جبن صاحبه وسوء سريرته، وتنصله من تحمل المسؤولية بين العباد، وإن سلم له أن يسلم عند العباد، فلن يسلم بالسكوت عند الله عز وجل، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والحال في الحياد كما قال أستاذ الجيل وشيخ مفسرين عصره وشهيد الإسلام سيد قطب رحمه الله: «إن عدم الانحياز انحياز». والله المستعان.