الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدّنا محمّد وسلّم.
إن الصلاةَ المفروضة هى أفضلُ الأعمال بعد الإيمان بالله ورسولِه ولا يكفى لتكون مُجزِئةً أن يقول الإنسانُ أنا قصدى إيقاع الصلاة صحيحة بل لا بد من مراعاة شروطها وأركانها ومن ذلك استقبال القبلة التى كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يستقبلونَها وهى الكعبة.
ولاستقبالها وتحديد جهتها شروطٌ وقواعد وضعَهَا علماءُ المسلمين وجعلوها عُمدَةً فى الأمر استمدُّوها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المجتهدين المعتَبرين، فلابد من مراعاتها.
هذا الأمر دينىٌّ يتعلق بالصلاة وأدائها وليس دنيويًّا كما هو واضحٌ وكما نصَّ عليه الإمام الشافعىُّ والغزالىّ ومفتِى غرناطة ابنُ السراج المالكىُّ ونقله الونشريسىُّ فى المعيار وغيرُهم فيُعتمد فيه على الأدلة الشرعية وأقوال العلماء لا على أقوال غير المسلمين ولا على أقوال المسلمين الخالين عن علم الدين ولو برعوا فى الرياضة والحساب سواء كانوا من أهل هذا العصر أو العصور الماضية. قال الإمام الشافعىّ رضى الله عنه فى الأمّ فى قوله تعالى :" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو "، كان معقولاً عن الله عزَّ وجلَّ أنه يأمرهم بتولية وجوههم شطره بطلب الدلائل عليه لا بما استحسنوا ولا بما سنح فى قلوبهم ولاخطر على أوهامهم بلا دِلالة جعلها الله لهم لأنه قضى أن لايتركهم سدى" اهـ أى إنما يُبَيّنُ الله لهم العلامات المعتبرة فى طلب جهة القبلة ولا عبرة بما لا يستند إلى دليل شرعىّ.
والتوجُّهَ إلى القبلة معناه استقبال شطْرِها كما جاء فى كتاب الله تعالى، والشطْرُ هو الجهة كما ذكر الإمام الشافعىُّ فى "الرسالة" ونصَّ عليه من لا يُحصَى من علماء الإسلام فذكروا كلُّهم أنَّ الشطْرَ معناه الجهةُ ولم يقل واحدٌ منهم إنه الطريق الأقصر أو الجهاتُ المتعددة, منهم أبو حيّانَ فى تفسير "البحر المحيط" والرازىُّ فى تفسيره الكبير وابنُ قُدامةَ الحنبلىُّ فى "الشرح الكبير" وغيرُهم كثير. قال أبو القاسم الخِرَقىّ فى مختصره الذى هو من أشهر الكتب فى المذهب الحنبلىّ "ولايصلى فى غير هاتين الحالتين فرضًا ولانافلةً إلا متوجهًا إلى الكعبة، فإن كان يُعَاينُها فبالصواب وإن كان غائبًا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها " اهـ
فالذى يرى الكعبة يتوجه إليها بالمعاينة والمشاهدة وهذا سهل، ومن كان بعيدًا عنها يتوجه شطْرَها أى إلى جهتها بطريقة سهلةٍ أيضًا مستعينًا بالعلامات التى بيَّنها الله تعالى فى القرءان وبيَّنها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فى الحديث وأوضَحها الأئمة الأربعة فى ما علَّموا وصنَّفُوا.
فينظر فى جهة البلد بالنسبة لمكة فإن كان شمالها يتوجه إلى الجنوب، وإن كان جنوبها يتوجه إلى الشمال، وإن كان شرقها يتوجه إلى الغرب وبالعكس، وإن كان بين الشرق والشمال منها يتوجه إلى الجنوب الغربىّ وإن كان بين الغرب والشمال منها يتوجه إلى الجنوب الشرقىّ وهكذا، تمامًا كما فعل الصحابة والتابعون وتبع الأتباع عندما وضعوا محاريب المساجد المختلفة التى أسسوها فى الجزيرة والشام والعراق واليمن ومصر وبخارى وسمرقند والصين والأندلس وغيرها من البلاد القريبة من مكة والبعيدة عنها من غير أىّ اعتماد على الطريق الأقصر فى ذلك ولا على حساب المثلثات الكروية. وهذه المحاريب قائمةٌ موجودةٌ فى بلاد المسلمين إلى الآن، وكلامهم فى ذلك محفوظٌ مُدَوَّنٌ فى بطون كتب العلماء. وقد استدلُّوا فى كلّ ذلك بالنجوم والشمس والقمر ونحوها من العلامات التى أرشد الله تعالى لاستخدامها فى القرءان ودلَّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث.
وهذا الأمر وهذه الطريقة لا علاقة لهما بشكل الأرض هل هى كروية تمامًا أو بيضاوية ولا بالخرائط المستعملة وإسقاطاتِ المدن والأماكن عليها بل لا يحتاج تطبيقهما إلى معرفة ذلك بل كلُّ ما يُحتاج إليه أن تنظر ما هى الجهة الواحدة التى لا تتغيّر والتى تحدد موقع مكة منك على حسب ما دلَّ عليه الشرع من الجهات والنسب.
قال تعالى فى سورة الأنعام :" وهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ البَرّ وَالبَحْرِ"، والهِدايةُ إنما تكون للمقاصد أى لما يقصده الناس عادة والصلاة أى ومعرفة القبلة من أهم المقاصد وقد جاء ذلك فى سياق الامتنان وهذا يدل على المشروعية أى على أنَّ اتباع هذه الطريقة مطلوب فى الشرع.
وقال تعالى فى سورة النحل :" وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" أى إلى الجهات المختلفة لقبلتهم وصلاتهم.
ولذلك قال الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه "المشرق قبلة أهل المغرب، والمغرب قبلة أهل المشرق، والشّمال قبلة أهل الجنوب، والجنوب قبلة أهل الشّمال" اهـ ونقله عنه رضى الله عنه كثيرون وأقروه كالزيْلَعِىّ فى "تبيين الحقائق" والرَّمْلِىّ الحنفىّ فى "الفتاوى الخيرية" وغيرهِما.
وقال النووىّ فى المجموع وهو من أشهر كتب الشافعية "ولا يصحُّ الاجتهاد إلاّ بأدلة القبلة وهى كثيرة وفيها كتب مصنّفة وأضعفها الرياح لاختلافها وأقواها القطب وهو نجم صغير فى بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدى" اهـ
وقال فى الدرّ المختار من أشهر كتب الحنفية "فتُبصَرُ وتُعرَف بالدليل، وهو فى القرى والأمصار محاريبُ الصحابة والتابعين وفى المفاوز والبحار النجومُ كالقطب" وعلَّقَ ابنُ عابدين الشامىُّ عليه فى حاشيته المشهورة قائلاً "قوله كالقطب هو أقوى الأدلة". اهـ
التوجه نحو القبلة شرط لصحة الصلاة.
موضوع: التوجه نحو القبلة شرط لصحة الصلاة. 
